المُخْتارُ الثَّقَفي
في شهر رجب سنة 60 للهجرة مات معاوية بن أبي سفيان بعد أن حكم بلاد الإسلام عشرين سنة ، و قد قتل في مدّة حكمه كثيراً من صحابة سيدنا محمد ( صلى الله عليه وآله ) من بينهم حجر بن عدي الكندي و عمرو بن الحمق الخزاعي و رشيد الهجري ، كما اغتال بالسمّ الإمام الحسن سبط النبي ( صلى الله عليه وآله ) و مالك الأشتر و سعد بن أبي وقاص و غيرهم .
كان معاوية قد عهد بالحكم إلى ابنه يزيد ، دون رضا المسلمين و استشارتهم ، فتحولت الخلافة إلى مُلكٍ يرثه الأبناء عن الآباء .
شعر المسلمون بالغضب لذلك ، لأنه شاب فاسق يشرب الخمر و يقضي وقته في اللعب و اللهو مع قروده و كلابه .
تمنى المسلمون في الكوفة و غيرها من المدن أن يكون الإمام الحسين خليفة فهو سبط سيدنا محمد ( صلى الله عليه وآله ) و رجل معروف بالتقوى و الصلاح و الايمان و احسانه للفقراء و المساكين .
لهذا بعث المسلمون في الكوفة مئات الرسائل و أرسلوا إليه الوفود ليأتي اليهم و يخلصهم من الظلم .
كان الإمام الحسين ( عليه السَّلام ) في المدينة المنورة ، و كان هو الآخر يرى أن مبايعة يزيد أمر مخالف للإسلام ، لهذا امتنع عن البيعة و أرسل ابن عمّه مسلم بن عقيل سفيراً إلى الكوفة .
أوصى الإمام الحسين ( عليه السَّلام ) ابن عمّه أن ينزل ضيفاً عند أوثق أهل الكوفة .
الكوفة
كان الناس في مدينة الكوفة ينتظرون قدوم الإمام الحسين ، فقد ملّوا ظلم الأمويين و اشتاقوا إلى عدل الإمام علي ( عليه السَّلام ) .
سمع أهل الكوفة بقدوم مسلم بن عقيل و حلوله ضيفاً في منزل المختار الثقفي .
و هكذا ازدحم الناس حول منزل المختار لرؤية مسلم سفير الإمام الحسين ( عليه السَّلام ) و مبايعته على إقامة حكم الله .
قرأ مسلم رسالة الإمام الحسين إلى أهل الكوفة .
ـ بسم الله الرحمن الرحيم
من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين و المسلمين ....
أما بعد ...
فان هانئاً و سعيداً قدما عليّ بكتبكم و كانا آخر من قدما عليّ من رُسلكم و قد فهمت كلّ الذي قصصتم و ذكرتم ، و مقالة جُلكم أنّه ليس علينا امام غيرك ، فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى و الحق ، و قد بعثت اليكم أخي و ابن عمي و ثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل و أمرته أن يكتب إليّ بحالكم و أمركم ، فان كتب انّه قد أجمع ملئكم و ذووالفضل و الحجى منكم على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم و قرأت في كتبكم ، أقدم عليكم و شيكاً إن شاء الله .
فلعمري ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب و الآخذ بالقسط والدائن بالحق و الحابس نفسه على ذات الله .
شعر المسلمون بالأمل و هم يستعمون إلى رسالة الإمام الحسين .
نهض المختار و بايع سفير الحسين على إقامة حكم الإسلام و الثورة ضد الظالمين و نصرة المقهورين .
كان المختار أول من بايع من المسلمين ، و بايع آلاف الناس حتى بلغ عددهم ثمانية عشر ألفاً .
المختار الثقفي
ولد المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي في مدينة الطائف في السنة الأولى من الهجرة النبوية .
كان والده من الذين اعتنقوا الإسلام و أخلصوا له ، قاد بعض معارك الفتح الإسلامي في بلاد فارس و استشهد في معركة " الجسر " عندما هجم عليه فيل مدرب فتولّى ابنه " جبر " القيادة بعده فاستشهد أيضاً .
أصبح منزل المختار مقرّاً لقيادة الثورة في الكوفة يقصده المسلمون كلّ يوم .
نقل الجواسيس الأخبار إلى يزيد بن معاوية في دمشق و أخبروه بتساهل الوالي " النعمان بن بشير الأنصاري " .
استشار يزيد " سرجون " و هو رجل مسيحي حاقد على المسلمين .
أشار " سرجون " بتعيين " عبيد الله بن زياد " والي البصرة حاكماً على الكوفة أيضاً .
وصل عبيد الله بن زياد إلى الكوفة ، و أصدر أمراً بإلقاء القبض على مسلم .
اختفى مسلم في أحد بيوت الكوفة و أُلقي القبض على المختار و سيق إلى " الطامورة " و الطامورة سجن مخيف تحت الأرض .
ملأ عبيد الله السجون من الناس الأبرياء ، و بثّ الجواسيس في الكوفة بحثاً عن مسلم بن عقيل .
اضطر مسلم لإعلان الثورة ، فاجتمع حوله آلاف الناس .
حاصر مسلم بقوّاته قصر الامارة عدّة أيام .
كان عبيد الله بن زياد رجلاً خبيثاً فراح يبث الشائعات ، و يقول سوف يصل جيش الشام الجرّار و سوف يدمّر الكوفة و يقتل الناس .
صدّق الناس تلك الشائعات فتركوا سفير الحسين وحيداً ، و اضطر مسلم للإختفاء مرّة اُخرى .
منزل طوعة
اكتشف الجواسيس مخبأ مسلم و كان منزلاً لامرأة عجوز طيّبة تدعى طوعة .
ارسل عبيد الله بن زياد الشرطة لإلقاء القبض عليه ، و عندما طلبوا منه الاستسلام رفض و راح يقاتلهم لوحده .
و بعد أن أُصيب بجروح بليغة و عرضوا عليه الأمان ، توقف عن المقاومة ، فأُلقي القبض عليه و سيق إلى قصر الأمارة .
كان عبيد الله بن زياد يحقد على أهل البيت و اتباعهم ، لهذا أمر باعدامه مع أحد أنصاره و اسمه هانئ بن عروة و كان من سادات الكوفة و أشرافها ، كما أمر بإلقاء جسديهما من فوق القصر .
ساد الخوف مدينة الكوفة ، بعد أن أصبح الحاكم يقتل الناس و يسجنهم لأقلّ تهمة .
معركة كربلاء
غادر الإمام الحسين المدينة المنورة إلى مكة في موسم الحج ، و عندما علم أن يزيد أرسل جواسيسه لاغتياله ، فضّل مغادرة مكة و قال :
ـ لا أُريد أن تستحلّ حرمة الكعبة بقتلي .
قصد الحسين الكوفة . و في الطريق سمع بقتل مسلم و هانئ و قيس بن مسهر الصيدواي و غيرهم .
و في صحراء كربلاء فوجئت قافلة الحسين ( عليه السَّلام ) بألف فارس يقطعون عليه الطريق .
ثم تعاقبت الكتائب العسكرية إلى أن أصبحت أربعة آلاف .
كان الحسين في سبعين رجلاً من أهل بيته و أنصاره .
و عندما طلبوا من الإمام الاستسلام و مبايعة يزيد أو الحرب قال قولته المشهورة :
ـ هيهات منّا الذلّة ...
اختار الإمام طريق الاستشهاد .
و في صباح اليوم العاشر من المحرّم حدثت معركة كربلاء حيث شن آلاف الجنود من المشاة و الفرسان هجوماً وحشياً فتصدّى الإمام الحسين ( عليه السَّلام ) و أصحابه للهجوم ببسالة و دارت معارك ضارية أدهشت العدوّ ، فقد إستطاع سبعون مقاتلاً فقط الاستمرار في المقاومة و القتال من ساعات الفجر الأولى إلى العصر .
و عندما لم يبق مع الحسين أحد ، خرج يقاتل تلك الألوف المدججة بالسلاح وحيداً . فجسد بقتاله و بسالته أعظم الملاحم في تاريخ البشرية .
أغار الجيش بعد قتل الحسين و قام بإحراق الخيام ، ثم ساق النساء و الأطفال أسرى ، و قطع رؤوس الشهداء و رفعوها فوق الرماح .
رأس الحسين ( عليه السَّلام )
قدّم الشمر و هو الذي ذبح الحسين ( عليه السَّلام ) رأس سبط سيدنا محمد ( صلى الله عليه وآله ) إلى عبيد الله بن زياد .
رأى الناس رأس الحسين فتألموا و ندموا على تقاعسهم عن نصرة ابن رسول الله .
أمر عبيد الله بن زياد باحضار المختار من السجن .
و عندما أحضر الحرّاس المختار و رأى رأس الحسين صاح بألم :
ـ آه .
و من ذلك الوقت فكّر المختار بالثورة و الاقتصاص من قتله أولاد الأنبياء الذين يقتلون النفس التي حرّم الله قتلها ، و يغتصبون حقّ الناس .
ميثم التمار
كان ميثم التمّار رجلاً صالحاً من أصحاب الإمام علي ( عليه السَّلام ) و قد تعلّم الكثير من علم الإمام .
عندما أُلقي المختار في السجن كان ميثم مسجوناً معه .
ذات يوم قال المختار لميثم :
ـ ان هذا الظالم ابن زياد سيقتلنا بعد ما قتل ابن رسول الله .
قال ميثم :
ـ أخبرني حبيبي علي اني سأُقتل و أُصلب على جذع نخلة ، أما أنت فستخرج من السجن و ستقتل هذا الطاغية برجلك على وجهه .
صفية
كانت صفية أُخت المختار زوجة لعبد الله بن عمر بن الخطاب ، و كان عبد الله على علاقة طيبة مع يزيد بن معاوية فتوسط للمختار .
كان عبيد الله مصمماً على قتل المختار و لكن مبعوثاً من قبل يزيد جاء على وجه السرعة و معه أمر بإطلاق سراح المختار من السجن .
قرأ عبيد الله بن زياد الرسالة و امتثل لأمر يزيد فاستدعى المختار من السجن و قال له بقسوة :
ـ أمهلك ثلاثة فقط فان وجدتك في الكوفة بعدها قتلتك .
غادر المختار الكوفة متوجهاً إلى مكة .
عبد الله بن الزبير
كان عبد الله بن الزبير قد أعلن نفسه خليفة و بايعة الناس ، بعضهم كان يحبّه ، و بعضهم كان يكره الأمويين .
كان المختار يعرف عبد الله بن الزبير و أطماعه و لكنه بايع ابن الزبير لأنّه عدوّ لبني أمية الظالمين .
في تلك الفترة ثار أهل المدينة المنورة و فيهم أغلب صحابة سيدنا محمد ( صلى الله عليه وآله ) على يزيد ، بعد أن قتل الامام الحسين و سبى عياله .
و لكن جيش الشام بقيادة مسلم بن عقبة الذي سمّاه الناس آنذاك مجرم بن عقبة اقتحم المدينة المنورة و حرم النبي و ارتكب المذابح و اعتدى على أعراض الناس ، و قد بلغ عدد القتلى أكثر من خمسة عشر ألف من الأبرياء فيهم سبعمئة من الصحابة و التابعين . كما عرض النساء للبيع في الأسواق .
و بعد هذه المذبحة تحرّك جيش يزيد نحو مكة لإخضاعها .
الدفاع عن بيت الله
في الطريق إلى مكة لدغت عقرب قائد الجيش مجرم بن عقبة فمات ، فتولّى قيادة الجيش الحصين بن نمير ، و هو أحد الذين اشتركوا في مذبحة كربلاء .
حاصر جيش الشام مكة المكرمة ، و أخذ الجنود مواقعهم فوق التلال و رؤوس الجبال .
نصبوا " المجانيق " و هي آلات تشبه المدافع يقذفون بها كتل النار .
أصدر الحصين أوامره بقصف المدينة :
ـ اقصفوهم بالمجانيق .
قال أحد الجنود :
ـ انّهم يحتمون بالكعبة أيّها القائد .
صاح القائد بحقد :
ـ اقصفوا الكعبة اذن ... نحن ننفّذ أمر الخليفة يزيد .
قصف الجنود الكعبة بالمجانيق و تساقطت الحجارة المشتعلة بالنار فوق المنازل و المساجد و شبّت النيران في جدران الكعبة .
بعد قصف شديد أمر الحصين الفرسان باقتحام مكة و قتل كل من يصادفهم .
هجم الفرسان تتبعهم قوات المشاة المدججين بالسلاح .
و دارت معارك ضارية في الحرم ، كان المختار يقاتل ببسالة دفاعاً عن بيت الله الحرام ، و استطاع دفع الغزاة إلى الوراء و اجبارهم على التراجع .
و بينما كان الحصار مستمراً ، و المعارك ضارية وصل نبأ هام .
جاء فارس من دمشق و اجتمع بالحصين بن نمير قائلاً :
ـ لديّ خبر مهم .
ـ تكلّم .
ـ لقد تُوفي الخليفة يزيد بن معاوية .
ـ ماذا ؟
فوجئ الحصين بالخبر فطلب منه التزام الصمت ، و لكن سرعان ما انتشر الخبر بين جنود الشام الذين ملّوا الحصار و اسنتكروا قصف الكعبة بيت الله ثم التوجه اليها عند الصلاة !
العودة إلى الكوفة
انتهى الحصار بعد انسحاب الحصين بن نمير و توجهه إلى دمشق .
قرّر المختار العودة إلى الكوفة بعد فراق دام اكثر من أربع سنوات .
كان عبيد الله بن زياد قد فرّ إلى دمشق بعد وفاة يزيد بن معاوية .
انتهز أهل الكوفة الفرصة و أعلنوا تأييدهم لعبد الله بن الزبير .
عيّن ابن الزبير عبد الله بن مطيع والياً على الكوفة ، و التف حوله بعض الزعماء الذين اشتركوا في مذبحة كربلاء .